سورة الرعد - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ (17)}
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه، فقال تعالى: {أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي: مطرا، {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أي: أخذ كل واد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء، وهذا صغير فوسع بقدره، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها ما يسع علما كثيرا، ومنها ما لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها، {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} أي: فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زَبَدٌ عال عليه، هذا مثل، وقوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} هذا هو المثل الثاني، وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} أي: ليجعل حلية أو نحاسا أو حديدًا، فيجعل متاعا فإنه يعلوه زبد منه، كما يعلو ذلك زبد منه. {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أي: إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام له، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب ونحوه مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل؛ ولهذا قال: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} أي: لا ينتفع به، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي، ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح. وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب، لا يرجع منه شيء، ولا يبقى إلا الماء وذلك الذهب ونحوه ينتفع به؛ ولهذا قال: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ} كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
قال بعض السلف: كنت إذا قرأتُ مثلا من القرآن فلم أفهمه بَكَيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله تعالى: {أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}.
هذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله. وهو قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} وهو الشك {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ} وهو اليقين، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خَبَثه في النار؛ فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك.
وقال العوفي عن ابن عباس قوله: {أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} يقول: احتمل السيل ما في الوادي من عود ودِمْنَة {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد، فللنحاس والحديد خبث، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت. فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله، والعمل السيئ يضمحل عن أهله، كما يذهب هذا الزبد، فكذلك الهدى والحق جاءا من عند الله، فمن عمل بالحق كان له، ويبقى كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض. وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبَثَه، ويخرج جيده فينتفع به. كذلك يضمحل الباطل إذا كان يوم القيامة، وأقيم الناس، وعرضت الأعمال، فيزيغ الباطل ويهلك، وينتفع أهل الحق بالحق.
وكذلك رُوي في تفسيرها عن مجاهد، والحسن البصري، وعطاء، وقتادة، وغير واحد من السلف والخلف.
وقد ضرب الله، سبحانه وتعالى، في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين ناريا ومائيا، وهما قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} الآية [البقرة: 17]، ثم قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} الآية [البقرة: 19].
وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين، أحدهما: قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور: 39] الآية، والسراب إنما يكون في شدة الحر؛ ولهذا جاء في الصحيحين: «فيقال لليهود يوم القيامة: فما تريدون؟ فيقولون: أيْ رَبَّنا، عطشنا فاسقنا. فيقال: ألا تردون؟ فيردون النار فإذا هي كالسراب يَحْطِم بعضها بعضا».
ثم قال في المثل الآخر: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ} الآية [النور: 40]. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فَقه في دين الله ونَفَعه الله بما بعثني ونفع به، فَعَلِم وَعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هُدَى الله الذي أرسلت به».
فهذا مثل مائي، وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن همام بن مُنَبِّه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثلي ومثلكم، كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجُزُهُنَّ ويغلبنه فيقتحمن فيها». قال: «فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحُجزكم عن النار، هَلُمّ عن النار هَلُمّ عن النار، هَلُمّ فتغلبوني فتقتحمون فيها». وأخرجاه في الصحيحين أيضا فهذا مثل ناري.


{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)}
يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} أي: أطاعوا الله ورسوله، وانقادوا لأوامره، وصدقوا أخباره الماضية والآتية، فلهم {الحسنى} وهو الجزاء الحسن كما قال تعالى مخبرًا عن ذي القرنين أنه قال: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 87، 88] وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
وقوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} أي لم: يطيعوا الله {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا} أي: في الدار الآخرة، لو أن يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه لافتدوا به، ولكن لا يتقبل منهم؛ لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} أي: في الدار الآخرة، أي: يناقشون على النقير والقطمير، والجليل والحقير، ومن نوقش الحساب عذب؛ ولهذا قال: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}


{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ (19)}
يقول تعالى: لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي {أُنزلَ إِلَيْكَ} يا محمد {مِنْ رَبِّكَ} هوَ {الحق} أي: الذي لا شك فيه ولا مرية ولا لبس فيه ولا اختلاف فيه، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا، لا يضاد شيء منه شيئا آخر، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} [الأنعام: 115] أي: صدقا في الإخبار، وعدلا في الطلب، فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد، ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه، ولو فهمه ما انقاد له، ولا صدقه ولا اتبعه، كما قال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] وقال في هذه الآية الكريمة: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} أي: أفهذا كهذا؟ لا استواء.
وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} أي: إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8